كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي. لأن المراد بالحديث الأول: أن المراة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة ايام إلا مع ذي محرم، وهذا لا يدل على تحديد أقل ما يسمى سفرًا، ويدل له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة: «لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم».
وفي بعض الروايات الصحيحة «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة» وفي رواية لمسلم مسيرة يوم وفي رواية له ليلة، وفي رواية أبي داود لا تسافر بريدًا، ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة، وكأن النَّبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا من غير محرم، فقال «لا»، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم فقال «لا»، ويومًا فقال «لا».
فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدًا للسفر اه. منه بلفظه.
فظهر من هذا: أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لاسيما أن ابن عمر باويه قد خالفه كما تقدم، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى.
وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضًا غير متجه، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيمًا وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لابد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف مدة ثلاثة ايام، فإن مكثها مسافرًا فذلك، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك، وذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر، وبما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة. لأنه قال: باب في كم يقصُر الصلاةَ وسمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا وليلة سفرًا لأن قوله وسمى النَّبي إلخ بعد قوله في كم يقصر الصلاة يدل على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر.
وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله، وممن قال بهذا داود الظاهري قال عنه بعض أهل العلم: حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر، واحتج أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبما رواه مسلم في صحيحه عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ- شعبة الشاك- صلى ركعتين»، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضًا في الصحيح عن جبير بن نفير قال: «خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على راس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلًا فصلى ركعتين فقلت له. فقال: رايت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له. فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين. لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلًا فتباعد ثلاثة أميال قصر.
لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى غلا وقد تباعد من المدينة، وكذلك حديث شرحبيل المذكور، فقوله إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو كان مسافرًا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره قاله النووي وغيره، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحًا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي.
قال مقيده- عفا الله عنه- قال ابن حجر في تلخيص الحبير: وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة». اهـ. وسكت عليه فإن كان صحيحًا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورًا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين.
قال مقيده- عفا الله عنه- هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولًا، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد» ضعيف. لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك وكذبه الثوري.
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ورواه عنه مالك في الموطأ بلاغًا وقد قدمناه.
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه. لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرًا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا؟ فإن كان صحيحًا كان نصًا قويًا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة، وقصر أهل مكة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة، وبعضهم يقول: القصر في مزدلفة، ومنى، وعرفات من مناسك الحج والله تعالى أعلم.
قال مقيده- عفا الله عنه- أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول من قال: إن كل ما يسمى سفرًا ولو قصيرًا تقصر فيه الصلاة، لإطلاق اسفر في النصوص، ولحديثي مسلم المتقدمين، وحديث سعيد بن منصور، وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب، سمعت ابن عمر يقول: «إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر».
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول: «لو خرجت ميلًا قصرت الصلاة».
قال ابن حجر في الفتح: إسناد كل منهما صحيح اه. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: يبتدئ المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفرن ولا في وسط البلد، وهذا هو قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور. على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله، وذكر ابن المنذر، عن الحارث بن أبي ربيعة، أنه أراد سفرًا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال: وروينا معناه عن عطاء، وسليمان بن موسى قال: وقال مجاهد: لا يقصر المسافر نهارًا حتى يدخل الليل، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار، وعن عطاء. أنه قال: إذا جاوز حيطان داره فله القصر.
قال النووي: فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النَّبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء، وموافقيه منابذ للسفر اه. منه، وهو ظاهر كما ترى.
الفرع الرابع: اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام، فذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد في إحدى الروايتين إلى أنها أربعة أيام، والشافعية يقولون: لا يحسب فيها يوم الدخول، ولا يوم الخروج، ومالك يقول: إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم.
وقال ابن القاسم: في العتبية يلغي يوم دخوله ولا يحسبه، والرواية المشهورة عن أحمد، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة.
وقال ابو حنيفة- رحمه الله-: هي نصف شهر، واحتج من قال بأنها أربعة أيام، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر» هذا لفظ مسلم، وفي رواية له عنه: «المهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة»، وفي رواية له عنه «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا»، وأخرجه البخاري في المناقب، عن العلاء بن الحضرمي أيضًا بلفظ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث للمهاجر بعد الصدر» اه. قالوا فأذن النَّبي صلى الله عليه وسلم، للمهاجرين في ثلاثة الأيام يدل على أن من أقامها في حكم المسافر، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام، وبما أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم ثلاثًا وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف، بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث. لأنها مظنة قضاء حوائجهم، وتهيئة أحوالهم للسفر، وكذلك ترخيص عمر لليهود في غقامة ثلاثة ايام، والاستدلال المذكور له وجه من النظر. لأنه يعتضد بالقياس. لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر، ومن أقام أربعة ايام، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه، واحتج الإمام أحمد، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر، وابن عباس- رضي الله عنهم- أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قدم مكة في حجة الوداع صبح رابعة، فأقام النَّبي صلى الله عليه وسلم، اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، وهي إحدى وعشرون صلاة. لأنها أربعة أيام كاملة، وصلاة الصبح من الثامن» قال: فإذا أجمع أن يقيم، كما أقام النَّبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم.
وروى الأثرم، عن أحمد- رحمه الله- أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجة الوداع عشرًا يقصر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه، وأن أنسًا أراد مدة إقامته بمكة ومنى ومزدلفة.
قال مقيده- عفا الله عنه- وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه، ووضوح أنه الحق.
تنبيه:
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضًا، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «أقام النَّبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا». لأن حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- في غزوة الفتح، وحديث أنس، في حجة الوداع، وحديث ابن عباس، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان ناويًا الإقامة، والإقامة المجردة عن نية لا تقطع حكم السفر عند الجمهور، والله تعالى أعلم.
واحتج أبو حنيفة- رحمه الله- لأنها نصف شهر، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر، يقصر الصلاة» وضعف النووي في الخلاصة، رواية خمسة عشر.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وليس بجيد. لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي، من رواية عراك بن مالك، عن عبيد الله، عن ابن عباس كذلك، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر، عن رواية سبعة عشر، ورواية ثمانية عشر، ورواية تسعة عشر. لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقًا، وأرجح الروايات، وأكثرها ورودًا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق ابن راهويه وجمع البيهقي بين الروايات، بأن من قال: تسعة عشر، عد يوم الدخول، ويوم الخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة حذف أحدهما.
أما رواية خمسة عشر، فالظاهر فيها أن الراوي ظن، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها، يوم الدخول، ويوم الخروج، فصار الباقي خمسة عشر، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء:
أحدها: أنه يتم بعد أربعة أيام.
والثاني: بعد سبعة عشر يومًا.
والثالث: ثمانية عشر.
والرابع: تسعة عشر.
والخامس: عشرين يومًا.
والسادس: يقصر أبدًا حتى يجمع على الإقامة.
والسابع: للمحارب أن يقصر، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام.
وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة، ويدل له قصر النَّبي صلى الله عليه وسلم مدة إقامته في مكة عام الفتح، كما ثبت في الصحيح وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال: «أقام النَّبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة». وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم، وأعله الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلًا، وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال: «بضع عشرة» وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف.
قال البيهقي بعد إخراجه له: ولا أراه محفوظًا، وقد روي من وجه آخر عن جابر «بضع عشرة» اهـ. وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنسًا كان يفعله. قال ابن حجر: ويحيى لم يسمع من أنس.